فقه السيرة النبوية - د.محمد راتب النابلسي
الدرس : 57 ـ " دور المسجد في الإسلام " ـ لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
بناء المسجد النبوي الخطوة الأولى في مجتمع المدينة النبوية :
أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية ، وقد وصلنا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ما إن وطئت قدماه أرض المدينة حتى سارع إلى بناء المسجد ، وهناك ثقافات أخرى تُسارع إلى بناء المسرح ، وكل ثقافة أرضية هناك شيء كبير عندها ، أما المسلم فروحه في المسجد .
لقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحد السَبْعَةِ الذين يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ :
(( وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ )) .
[ متفق عليه عن أبي هريرة ]
ماذا يعني بناء المسجد النبوي ؟
لذلك في هذا اللقاء الطيب حديث عن دور المسجد في الإسلام .
أولاً : لأن النبي معصوم ، ولأن سنته أقواله ، وأفعاله ، وإقراره ، فماذا يعني بناء المسجد ، وماذا كانت صفات مسجد رسول الله ؟
1 – المسجد هو الهيئة العليا في الإسلام :
أولاً : بناء مسجد المدينة كان أول عمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، لأن المسجد يحتل أعلى مكانة في المجتمع الإسلامي ، فهو مكان العبادة ، ومكان طلب العلم ، ومكان لقاء المسلمين ، الآن موقع هذا المسجد كان في مركز المدينة ، كان يتوسط المدينة المنورة .
2 – المسجد النبوي كان في الوسط الهندسي للمدينة النبوية :
أحياناً يكون المسجد الأول في طرف القرية ، وهذا خطأ كبير ، المسجد يجب أن يكون في الوسط الهندسي ، وهل تصدقون أن بيت الله الحرام يقع في الوسط الهندسي للأرض في الوسط الهندسي للعالَمين القديم والجديد ، فلو أخذنا العالم القديم ، وأخذنا أطراف العالم القديم ووصلنا بين الأطراف بأقطار ، يكون مكان تقاطع الأقطار هو بيت الله الحرام ، ولو أخذنا العالم الجديد ، وأخذنا أطراف العالم الجديد ، ووصلنا بينها بالأقطار يكون مكان تقاطع الأقطار هو بيت الله الحرام ، ولا يقابل بيتَ الله الحرام موقعٌ بري في طرف الأرض الآخر ، طبعاً في هذه المسألة بحث مطول ، وأراه أنا من الإعجاز العلمي ؛ أن موقع مكة المكرمة هو الوسط الهندسي للعالَمين القديم والجديد ، فإن مكة تبعد عن أي نقطة في أطراف العالم القديم 8500 كم ، وتبعد مكة المكرمة عن أي نقطة متطرفة في العالم الحديث 13 ألف كيلومتر ، فمكة المكرمة بهذا الاعتبار وسط هندسي للعالَمين القديم والجديد .
3 – المسجد له رسالة شاملة :
كان هذا المسجد على تواضعه مركز النشاط العام العمراني ، والاقتصادي والاجتماعي ، والتربوي ، والسياسي ، والعسكري .
مع الأسف الشديد جداً فإن بعض المساجد للصلاة فقط ، المسجد له ـ ولا أبالغ ـ مئات الوظائف ، للصلاة ، ولإلقاء الدروس ، وللمشاورة ، المسجد له رسالة ، وما لم يستعد المسجد رسالته فلن ينهض المجتمع الإسلامي ، رسالته مكان يجمع المؤمنين ، يجمعهم للعبادة ، ولطلب العلم ، وللتشاور ، وللتعاون ، من أجل أن يؤدي المسجد رسالته .
المسجد النبوي كان بسيطاً ، أنا أتمنى أن يكون مسجدنا بسيطاً .
أعرف مسجدا كنت أدرس فيه في دمشق ، واسع جداً ، جدرانه مطلية بطلاء جيد ، فيه إضاءة جيدة ، وتدفئة جيدة ، وتكييف جيد ، و مكبِّر صوت جيد ، لكن ما فيه زخرفة ، لذلك هناك محسنون لا يدفعون في بناء المساجد إلا على الهيكل فقط ، لئلا يتورط من يشرفون على بناء المسجد بزخرفة غالية جداً .
أنا أذكر مسجدا من أجل آيات تزين جدرانه دفعِت ملايين الليرات ، ومكن بثمن هذه الزخرفة لجدرانه أن ننشئ مسجدين بالمبلغ نفسه .
أول صفة : ينبغي أن يكون المسجد مريحاً ، فيه تدفئة شتاء ، وتبريد صيفاً ، وفيه ماء بارد ، وماء ساخن للوضوء في الشتاء ، وفيه نقل صوت جيد ، وفيه إضاءة جيدة فقط ، هذا المطلوب ، فما فوق ذلك يمكن أن ينفق في بناء مسجد آخر ، فصفة هذا المسجد أنه كان بسيطاً ، من حيث مواده الأولية ، وفي الوقت نفسه كان هذا المسجد معهد إعداد رجال ، فقد ترك النبي عليه الصلاة والسلام أبطالا ، أين تربوا ؟ في المسجد ، المسجد يبني نفوس المؤمنين .
لذلك المؤمنون في مساجدهم كالسمك في الماء ، والمؤمن يحب الله ، ومن فروع محبة الله محبة المساجد ، فهو يرتاح في المسجد ، ولما يصلي .
إذا سافرت إلى بلد ، ودخلت إلى مسجد تقضي حاجة ، ثم تتوضأ ، وتصلي فإنك تستريح راحة كبيرة جداً .
كتعريف دقيق : كان المسجد معهداً لإعداد الرجال ، وبناء المجتمع ، فكيف تبني بناء من أساس ، الطابق الأول ، الثاني ، لبنة ، لبنة ، دعامة ، دعامة ، المسجد يبني المؤمنين ، يبني عقيدتهم ، يبني منهجهم ، يبني نفوسهم ، يبني تصوراتهم ، يبني آمالهم .
كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم دار عبادة ، ومجلس شورى ، ومعهد علم ، وتعليم ، وتربية ، ومجلس ضيافة ، يأتي ضيف إلى المسجد ، ومكان حوار بين الأطراف مع الوفود القادمة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومأوى للمهاجرين ، ومصنعاً للأبطال ، وحبساً للأسرى ، ومجلس دعوة إلى الله ، إلى غير ذلك من المهمات الجليلة .
هذه المهمات الجليلة في آخر الزمان مُسخت إلى أداء الصلوات فقط ، وهو في الحقيقة مجلس شورى ، مدرسة تعليم ، بناء أمة ، تدريب ، حوار ، استقبال ضيوف ، مأوى للفقراء ، في أجنحة تابعة للمسجد .
وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قدوة ومثلاً أعلى في بنائه ، ووضع أساسه وتحديد قبلته ، فهو في الوقت نفسه القدوة والمثل الأعلى للمسلمين في القول ، والعمل والسلوك ، كان بنفسه يبني المسجد .
بالمناسبة : بناء المسجد وسام شرف ، وأذكر عالما كبيرا من علماء مصر كان مقيما في مكة المكرمة وقت توسعة الحرم ، حدث عن نفسه فقال : عمل أياماً طويلة وشهوراً في نقل التراب من مكان إلى مكان ، على علو قدره ، لأن بناء المسجد وسام شرف للمؤمن .
( سورة البقرة الآية : 127 ) .
مرة زرت إنسانا يعمل في خدمة المسجد ، لكن لفت نظري أن المسجد نظيف نظافة تفوق حد الخيال ، وكأنه بيت لامرأة أصيبت بوسوسة النظافة ، فمن مستحيل أن تصلي ببذلة ذات لون داكن ، وأنت ترى شيئاً أبيض عند ركبتيك ، لتنظيف السجاد اليومي بالآلات حديثة مع الماء والغسيل ، فكان هذا الأخ يتفانى في خدمة المسجد ، إن تدخلت إلى مرافقه العامة فكأنها في بيت ، صاحبته مصابة بوسوسة النظافة ، سألته ، قال لي : هذه صنعة الأنبياء .
( سورة البقرة الآية : 125 ) .
خدّام المساجد تحفِّزهم هذه الآية حفزاً لا يعقل .
( سورة البقرة ) .
إذاً : خدمة المسجد وسام شرف ، وأنا أقول دائماً : لو أن إنسانا أخذ قشة من المسجد ، ووضعها في جيبه كان له أجر ، وجد قشة يجب ألا تكون ، حملها ، ووضعها في جيبه ، هذا من تعظيم الله عز وجل ، لقول تعالى :
( سورة الحج ) .
بيتُ النبي وحجراتُ أزواجه كانت بجوار المسجد :
وكان بناء حجراته وسكناه بجوار المسجد ، أنا أرى البيت المجاور للمسجد له ميزة كبيرة جداً ، تستمع إلى الأذان ، وللصلوات الخمس ، فتبادر إلى الصلاة في المسجد ، وأنت جار المسجد ، وصلاة الجماعة تعدل صلاة الفرد بـ 27 ضعفا ، وأنا أتمنى إذا اشترى إنسان بيتا أن يلحظ أن يكون قريباً من المسجد .
لذلك كان عليه الصلاة والسلام حجراته وسكانه بجوار المسجد ، وبابه مشرّع إليه ، ويعجبني كثيراً أن يبنى المسجد ومعه بيت للإمام ، وللخادم ، ولما تؤمِّن للإنسان بيتا فإنه يستقر ، والآن مساجد عديدة فيها بيت للخادم والإمام ، وما دام المسجد في مركز المدينة فالنبي عليه الصلاة والسلام كانت بيوته حول المسجد ، وهي في وسط المدينة .
بعض العلماء يحرصون على أن تكون بيوتهم في مركز معقول ، أحيانا يختار مكانا بعيدا جداً مريحا ، لكنه بعيد عن حاجات الناس .
فحجرات النبي عليه الصلاة والسلام تسهل لقاء الناس معه ، وسؤالهم إياه وتعاونهم ، وتظافرهم حوله ، ومعه ، وبه ، فكانوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ، لكن حدث تطور جديد :
لما توسعت المدينة وامتدت ، والأطفال يصعب عليهم أن يأتوا إلى المسجد أمر النبي بإنشاء مساجد في أطراف المدينة ، هذه حاجة ، فهناك مسجد مركزي ، ومساجد للأطفال وللضعفاء ، وللمتقدمين في السن ، هذه المساجد قريبة من بيوتهم .
لابد من توسيع رسالة المسجد :
أنا أفرح أشد الفرح حينما أرى في معظم المساجد معاهد تحفيظ قرآن للأطفال في الصيف يتعلمون القرآن ، ويكون مأوى لهم ، والعطلة الصيفية مشكلة كبيرة لأسرة لا ينضبط أبناؤها .
والله مرة سافرت إلى بلدة في الشرق ، دخلت إلى المسجد فلم أجد مكانا ، كل الحاضرين صغار يتعلمون القرآن الكريم ، الآن بعض المعاهد تستغل الوقت فتقيم معهدا صباحيا ثانويا ، ومعه توقيت مسائي للجامعيين ، ففي النهار هذه القاعة للصف السادس الشرعي ، ومساء هذه القاعة لاختصاص الشريعة والقانون ، فلما نستخدم البناء مرتين فهذا نوع من الاستغلال للبناء ، أنا أتمنى أن يوظف المسجد في وظائف لا تعد ولا تحصى .
الآن مكتبة مثلاً ، الكتب غالية ، فإذا وُحِدت مكتبة في المسجد فهذا شيء جميل ، أحياناً مستوصف ، الآن بعض المساجد معها مستوصف ، المحسنون يؤسسون هذا المستوصف فيه أطباء للمعالجة العامة ، ومعالجة داخلية ، وقلبية ، وجلدية ، فيه أجهزة ، فيه أدوات ، فيه موظفون ، فصار المسجد فيه مكتبة ، ومستوصف ، و مدرسة ، وملحق معه معهد ، وجمعية خيرية ، ومكان للدعوة ، ومكان للقاءات ، ومكان للحوار ، ومكان للضيوف ، هذا الذي أتمناه أن يستعيد المسجد دوره القديم ، لأن وظائف المسجد لا تعد ولا تحصى ، وهي كثيرة جداً .
لكن بالمناسبة ، لو أن قرية فيها ثلاثة مساجد ، أحد المساجد يتسع لكل أبناء القرية من أجل وحدة الشمل ، لا يجوز أن تكون صلاة الجمعة إلا في مسجد واحد ، إذا كان أحد المساجد يستوعب أهل القرية كلهم ، إذاً : الصلاة صحيحة في واحد ، وغير هذا الواحد الصلاة غير صحيحة .
لذلك قالوا كقاعدة : الجمعة لمن سبق ، يعني أول مسجد تقام فيه الجمعة فيه الصلاة صحيحة ، أما الآن دمشق فيها خمسة ملايين ونصف مليون ، ولا يوجد جامع يمكن أن يستوعبهم ، إذاً : جميع المساجد صلاة الجمعة فيها صحيحة ، فلا حاجة أن نصلي الظهر ، والسادة الشافعية يصلون الظهر احتياطاً .
الجانب الشكلي في المسجد النبوي :
وكان المسلمون يستنيرون ليلاً بإشعال سعف النخل في مؤخرة المساجد ، سبحان الله مفارقة حادة ، المساجد كبيرة ، مزدانة ، مزخرفة ، مدفأة شتاء ، مكيفة صيفاً ، فيها إنارة ، فيها ثريات ، فيها منابر ، فيها أماكن تدريس ، فيها أبهاء ، فيها صحن كبير ، والمسلمون يغزون في عقر دارهم .
قديماً كان المسجد أرضه من البحص ، وسقفه من سعف النخيل ، وقد حدثني أحد الإخوة الكرام أن المسجد النبوي الروضة فيه خضراء ، والمسجد الحالي يغطي مساحة المدينة المنورة كلها ، أي إن حدود المسجد الحالي حدود المدينة في عهد رسول الله كلها ، والروضة الشريفة مع المحراب ، مع السواري ، هذه مساحة المسجد في عهد رسول الله ، فالعبرة بالقلوب المؤمنة ، لا بالثريات المتألقة .
تميم الداري كان في الشام فاشترى قناديل وحبالا ، وجاء إلى المسجد النبوي ، وعلق القناديل بالحبال ، وأشعل القناديل ، ثم دخل النبي عليه الصلاة والسلام فسرَّ بهذه القناديل سروراً عظيماً ، وسأل : من فعل هذا ؟ قالوا : تميم الداري ، فأثنى عليه ثناء كبيراً .
لذلك خدمة المسجد شرف كبير ، تروي روايات أن المسجد النبوي الشريف استغرق بناءه سبعة أشهر ، والنبي عليه الصلاة والسلام يسكن في دار أبي أبوب الأنصاري ، ثم نقل سكنه إلى حجرتي سوده بنت زمعة وعائشة زوجتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثمّ بنيت باقي الحجرات تباعاً .
أنا أتمنى أن يكون المسجد مكان عبادة أولاً ، ومكان تدريس ثانياً ، ومكان لقاء ثالثاً ، ومكان حوار رابعاً ، وفيه مكتبة ، وفيه مستوصف ، وفيه مدرسة ، وفيه مرافق كثيرة ، فلعل الله سبحانه وتعالى يعيد لنا مجد المساجد ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( خير البقاع المساجد ، وشرها الأسواق )) .
[ الجامع الصغير عن ابن عمر بسند حسن ]
أضرب مثلا :
قد يأتي الإنسان مع زوجته إلى المسجد ، هي في قسم النساء ، وهو في قسم الرجال ، يستمعون إلى موضوع في العلاقات الزوجية ، فتزداد معرفة بقدر زوجها ، ويزداد اتباعاً لوصية النبي في النساء ، يذهبان إلى البيت ، كل طرف يبالغ في خدمة الطرف الآخر ، فتنشأ المودة بينهما ، ولو أن الزوج وزوجته ذهبا إلى السوق ، وأعجبتها قطعة ثياب ، وثمنها باهظ ، فرفض الزوج لنشب خلاف بينهما ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام :
(( خير البقاع المساجد ، وشرها الأسواق )) .
نصحت أخا ذهب إلى بريطانية ، قال لي : ماذا أفعل ؟ نصحته أن يستأجر بيتاً إلى جانب مركز إسلاميي ، قال : لمَ ؟ قلت له : أولاً الإنسان قوي بأخيه ، وفي المركز تتعرف إلى إخوة مؤمنين ، والرفيق المؤمن في السفر مهم جداً .
مرة التقيت بأب أرسل ابنه إلى بلد غربي للدراسة ، وأصر الأب على تزويج ابنه قبل أن يذهب ، فقال لي : هذا الشاب الطبيب الآن قال لي : أمضيت سنوات سبعا في هذا البلد ، وإلى جانبي زوجتي ، وكأنني في حصن حصين .
التأريخ الإسلامي بدأ بالهجرة النبوية :
أيها الإخوة ، الآن ابتداء التأريخ الإسلامي من الهجرة النبوية ، أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالتأريخ ، فكتب من حين الهجرة في ربيع الأول ، قال أبو جعفر : " فذكرى أنهم كانوا يؤرخون بالشهر والشهرين من مقدمه إلى أن تمت السنة " .
وعن سهل بن سعد قال : << وما أصاب الناس العدد ما عدوا من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته ، ولا عدوا من مقدمه إلى المدينة >> .
الإسلام حركة :
لكن لماذا لا يبدأ التأريخ من بعثة النبي ، أو من ولادة النبي ، أو من موت النبي عليه الصلاة والسلام ، الهجرة حركة ، والمؤمن متحرك ، وقيمة المؤمن بحركته وبعمله ، فميلادك لا يعني شيئاً ، والوفاة لا تعني شيئاً ، أما الهجرة فتعني كل شيء ، تعني إنسانا تحول من بلد يعصى الله فيه إلى بلد يعبد الله فيه ، والله عز وجل يقول :
( سورة النساء ) .
أيها الإخوة الكرام ، حكمة بالغةٌ تؤكد أن الإسلام حركة ، أن الإسلام التزام ، أن الإسلام عطاء وأخذ ، صلة وقطيعة ، رضى وغضب ، لأن الإسلام حركة ، أمر النبي أن تتخذ الهجرة بداية للتاريخ الإسلامي .
وفي التأريخ الإسلامي عدّ شهر المحرم رأس السنة ، فعن عبيد بن عمر قال : " إن المحرم شهر الله عز وجل وهو رأس السنة فيه يكسى البيت ، ويؤرخ التاريخ ، ويضرب فيه الورق ، أي النقد ، وفيه تاب قوم فتاب الله عز وجل عليهم " .
إذاً : أيها الإخوة ، لأن الإسلام حركة ، ولأنه عمل ، ولأن الله عز وجل :
( سورة النحل الآية : 32 ) .
لذلك بدأ التأريخ الإسلامي من هجرة النبي عليه الصلاة والسلام .
الدعوة الإسلامية بعد الهجرة :
الآن مع الدعوة الإسلامية بعد الهجرة :
لم يمضِ على عودة أصحاب البيعة الثانية وقت طويل حتى انتشر الإسلام في دُورِ الأنصار ، فلم يخلُ بيت من بيوتهم من مسلم ، أو من يتحدث بحديث الإسلام ، والأنصار يتوالون في الانضمام إلى الركب الإسلامي تباعاً ، ولم يبقَ منهم أحد خارج دائرة الإسلام بعد هزيمة الأحزاب ، أي أن أقلّ من خمس سنوات كان الزمن الذي عاشته الدعوة الإسلامية ما بين الهجرة وشمول الإسلام كل الأنصار .
1 – من إسقاطات المرحلة المدنية على واقعنا اليومي :
مثلاً : يأتي شاب إلى المسجد فيطرب أشد الطرب ، يفرح ، ينتشي ، يتوب إلى الله ، يقبل عليه ، يشتهي ملاقاة أخيه ، ويدعوه إلى بيته ، يشتهي ملاقاة ابن عمه ، وملاقاة ابن خاله ، كان شاباً واحداً فأصبح بعد حين جمعاً غفيراً .
أعرف أخا من إخواننا أمّن مئة شريط للدروس ، بدأ يوزعها على أقربائه ، لكنه توزيع دقيق يسجل ، يعطي الشريط ويقول لصاحبه : اسمعه ، وبعد يومين سآتي لآخذه ، هذه المئة شريط خلال ستة أشهر جعل عددا كبيرا من أقربائه من رواد المسجد ، ومن طلاب العلم ، وقد أكرمهم الله بالهداية ، فالإسلام حركة أيها الإخوة .
وكان من المظاهرة المثيرة للانتباه هذا الانتشار السريع ، بل والذي حمل معه ألوان الأخوّة والتضحية الشيء الذي لا يكاد يصدق ، الأنصار عرضوا على المهاجرين نصف ممتلكاتهم ، نصف بساتينهم ، عنده دكانان يقول له : خذ واحدا ، عنده بيتان ، خذ واحداً ، ولم يسجل التاريخ أن مهاجراً أخذ من أنصاري شيئاً ، الأوائل كرماء ، والمهاجرون أعفة .
الصحابي الجليل الغني عبد الرحمن بن عوف آخاه النبي مع سعد بن الربيع أعطاه دكاناً ، أعطاه مالاً ، قال له : بارك الله بمالك ، ولكن دلني على السوق .
الآن ماذا يحصل ؟ يكون المستشفى الحكومية أسعاره رمزية لفقراء المسلمين ، فيأتيها الأغنياء ليجروا عمليات بأسعار مخفضة ، أنا أتألم ، هذه ليست لكم ، أنتم أغنياء ، دعوها للفقراء .
كان قديماً الأنصاري يعرض على المهاجر بيتاً ، أو مالاً ، يقول له : << بارك الله لك في مالك ، ولكن دلني على السوق >> ، بقدر سخاء الأنصار عفة المهاجرين .
أيها الإخوة الكرام ، ما لم نتأسَ بهذه السيرة ، وما لم تكن هذه السيرة منهجاً ، لأن النبي كما تعلمون أقواله تشريع ، وأفعاله تشريع ، وإقراره تشريع ، بل إن أفعاله يعدها بعض العلماء أصدق في التعبير عن فهمه لكتاب الله من أقواله ، لأن أقواله تخضع للتأويل أحياناً ، بينما أفعاله حدية ما لم تكن هذه السيرة منهجاً فلن نفلح أبدا .
2 – المسجد موضع الإكرام :
أيها الإخوة ، أريد أن أبلغكم أن المسجد قوام حياة المسلمين ، وأن رواد المساجد هم عمّارها .
(( إن بيوتي في أرضي المساجد ، وإن زواري فيها عمّارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ، ثم زارني في بيتي ، فحق على المزور أن يكرم زائره )) .
[ رواه الطبراني عن ابن مسعود ] .
سؤال محرج أين الإكرام ؟
نحن جالسون على الأرض ، ليس هناك مقاعد وثيرة ولا ضيافة ، ولا كأس عصير ، ولا قطعة حلوى ، أين الإكرام ؟
الإكرام أنك حينما أتيت بيت الله حُق على الله أن يكرمك ، يكرمك بالتوفيق ، يكرمك بالحفظ ، يكرمك بالتأييد ، يكرمك بالنصر ، يؤتيك الحكمة .
( سورة البقرة الآية : 269 ) .
يمنحك نعمة الأمن.
( سورة الأنعام ) .
يمنحك نعمة الرضا ، ترضى عن الله ، يمنحك زواجاً موفقاً ، يمنحك رزقاً حلالاً يمنحك صحة عالية ، هذا إكرام الله عز وجل .
(( إن بيوتي في أرضي المساجد ، وإن زواري فيها عمّارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ، ثم زارني في بيتي ، فحق على المزور أن يكرم زائره )) .
عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ )) .
[ مسلم ]
يعني يا رب تجلَّ على قلبي ، سأصلي فتجلَّ على قلبي بالسكينة ، ألقِ في قلبي نوراً أرى به الحق حقاً والباطل باطلاً ، أما إذا خرج من المسجد له دعاء آخر :
(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ )) .
[ مسلم عن أبي أسيد ]
يا رب ارزقني عملاً صالحاً في بيتي ، وفي الطريق ، وفي عملي ، يكون تجسيداً لفهم دينك ، ففي الدخول : ((اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ )) ، وفي الخروج : ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ )) .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ... وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ )) .
[ متفق عليه ] .
والحمد لله رب العالمين